Friday, 31 December 2010

ذات خريف - قصة

كانت العصا تترك أثراً غائراً فوق الأرض الترابية, و كان هو رجلاً ينظر إلى العالم من خلال نظارة ذات إطار مذهب,و كان جسده المستند على العصا يبدو منهكا و مضحكاً لمن يراه يسرع في خطواته,في مشيته تلك كان يحرص ألّا يدوس بحذائه الثمين فوق أوراق الشجر الذهبية التي كانت تحتضر في سكون في ذلك الخريف,لقد كان يعلم كل شيء قبل أن يخبره الطبيب,بل إنه كان يتفاجأ من قبل حينما كانوا يخبرونه أنه على ما يرام و جسده سليم,كان يريد لو أخبر الطبيب أن الورم لم يبدأ من سنة و بضعة أشهر كما رجحت الفحوصات بل إن ذلك الورم بدأ منذ زمن بعيد داخل روحه و جعله يفقد الإحساس بوجوده,تحديداً عندما أصبحت الحياة مملة في ناظريه و أصبحت عبئاً ثقيلاً,و ظل ذلك الورم يكبر بداخله حتى التهمه و أفقده القدرة على الفرح و السرور,لم يُعلم أحداً بخروجه و كان يعلم أن اختفاءه سيسبب فزع لزوجته وأولاده,لكن,إنها الرغبة الأخيرة لرجل يحتضرسيغفرون له,حتماً سيغفرون, كان يزور للمرة الأخيرة ذلك المكان الذي قضى فيه طفولته و صباه,عله يؤرخ ما لا تاريخ له,و يرى أثر الزمن على الأشياء العادية و التي تبدوا للناس العاديين تافهة,بينما الأطفال يرونها عالماً متفرداً و سحريّاً,علّ عودته كانت ليقابل ذلك الطفل الذي تركه يلهو فوق تلك الأرصفة و يرى الوجود كما يحب الوجود أن يراه البشر,تأمل شرفةً مغلقة في مبنى عتيق,و تساءل ربما كانت شرفة منزله القديم,عندما كان الوقت يمر متمهلاً ببطء,و عندما كان بيته الضيق عالماً واسعاً جميلاً,ربما لأن الأطفال يرون العالم بعدسة مكبرة, كان المنزل يبدو بين المنازل دخيلاً,توقفت عيناه عند سرب من الحمام يدور و يتفرق بعضه عن بعض ثم يرجع مرةً أخرى ليلتقي و يطير فرحاً بالحياة رغم أن السماء كانت رمادية,ما يذكره الرجل جيداً أن السماء كانت أيضاً رمادية و كانت هناك غربان تنعق يوم قرر أن يرحل بلا عودة,ما يذكره أيضاً أنه كان شعلةً من الثورة على كل شيء,الحياة,الفقر,العادات القديمة,الشوارع الضيقة,البشر التقليديين,كل شيء,حتى أهله المقربين كان ثائراً عليهم,وصل الرجل إلى مصطبة حجرية لمنزل مطل على ساحة ترابية واسعة,كان يرى في ذلك الشباب البعيد أن الجحيم هو الحياة في منزل كهذا المنزل,بينما تمر الأيام ببطء,جلس الرجل على المصطبة و وضع عصاه بجانبه بينما ترك رئتيه تمتصان الهواء المنعش في هدوء مغلقاً عينيه للحظات ثم فتحهما فجأةًعلى مشهد رومانسي هاديء للساحة الواسعة و الخالية إلا من أشجار بلا أوراق و كلبٍ كسولٍ نائم.

أخرج من جيب سترته كيساً مليئاً بالحبوب و بدأ ينثر منها فوق الأرض الترابية,أخرج محفظته الجلدية و ساعته الذهبية,و كاد أن يخلع خاتم زواجه الذهبي لكنه عدل عن ذلك,مسد شعره الذي ما زال يحتفظ بلونه البني رغم تقدمه في العمر,استمر ينثر الحبوب أمامه حتى بدأ الحمام يتجمع ليلتقط الحبات بينما استمرت الأوراق الذهبية تتساقط معلنةً انتهاء حياة و مبشرة بحياة جديدة ستأتي,أشعل الرجل سيجارة أخيرة و امتص منها الدخان بعمق,واصل نثر الحبوب ثم ترك الكيس فجأة يسقط بجانبه,اسند ظهره إلى الجدار و تذكر يوماً ما في ماضيه,حيث كان طفلاً تدهشه الحمائم,أغلق عينيه بينما استمرت سيجارته تتناقص و استمرت الحمائم تلتقط الحبات,و استمرت رياح تحرك الأوراق الذهبية صانعةً لحنا جنائزياً....


No comments: